الاثنين، 24 نوفمبر 2008


"مدينة"، استحالة تطبيع الوجدان العربي
تعود مسألة مقاطعة الفنانين العرب ورفضهم التطبيع مع اسرائيل كثيرا في هذا الموقع. مضى أقل من سنة على موضوع نُشر هنا أيضا تحدث عن مشاكل أثارها بثُ عملين. كان من الممكن أن يُشرَح منطق هذه المقاطعة بدلاً من تبرير إقصاء فيلم "زيارة الفرقة الموسيقية"، حتى ولو أسفنا على عدم عرضه نظراً لقيمته الفنية. أمّا الفيلم الثاني فهو سلطة بلدي أو بالأحرى وثائقي صُورَ بطريقة رائعة ويحكي العمل قصة عائلة (مسلمة و مسيحية ويهودية) من ناشطين اليسار المصري وكان من بين ميزاته أنّه استطاع أن يُبرزَ صعوبة سؤال لا وجود لجواب بسيط له.
نكتشف حاليا على الصفحات الثقافية لليومية اللبنانية "الأخبار" جدلاً يدور حول نفس الموضوع وسببه هذه المرة أحد منشورات كوما بريس وهي دار نشر بريطانية لا تبحث عن المكسب التجاري بقدر ما تسعى إلى تحريك الآداب الجديدة. في مجموعة عن المدينة، نشرت جمانة حداد "مدينة، قصص مدن من الشرق الأوسط"، انطولوجيا ذُكرتَ فيها تل أبيب بقلم الكاتب الإسرائيلي يتزهار لاور. ولقد ضم الكتاب تسعة نصوص متَرجمة من اللغة العربية (وواحدة من اللغة التركية) تحدثت عن بغداد و بيروت و عمان و الرياض و اللاذقية و الإسكندرية ...الخ.
لقد أثار هذا التقارب (إذا كان بالمعنى الحقيقي للكلمة أو المجازي) غضب الشاعر الفلسطيني نجوان درويش. وتحت عنوان "تسرب إسرائيلي داخل اللاشعور العربي" تساءل هذا الشاعر، الذي يشارك بمقالاته بشكل منتظم على صفحات "الأخبار" ، عن السبب الذي دفع بالكُتاب العرب إلى المشاركة في هذه الانطولوجيا التي تضع تل أبيب بين المدن العربية وأولهم الناشرة. يرى الشاعر أنّ مواقف الكاتب الإسرائيلي ضد الاحتلال هي حجة للتطبيع الزاحف وكأنّه من الطبيعي جداً أن يُذكَر اسم مدينة بُنيَت على أنقاض المدن العربية التي دُمرَت عام1948.
سواء قبلنا أو رفضنا، إنّ الانطولوجيا التي تنسقها جمانة حداد تخفي وراءها حسب الشاعر نظرة خاصة حول "الشرق الأوسط الجديد" الذي هو من صُنع السياسة الخارجية الأمريكية أين يجد أي كاتب مثل يتزهار لاور مكانه طبعاً...
وقبل أن تبدأ ردود الفعل وهذا بسبب نشر الانطولوجيا، رافق تقديم هذا الكتاب نص باللغة العربية و الانجليزية كتبها الناشر على موقعه حيث أشار أنّ فكرة إدراج قصة الكاتب الإسرائيلي ضمن قصص الانطولوجيا هي فكرته بالأساس وأنّ المنسقة اللبنانية للكتاب رفضت بشدة هذا الاقتراح قبل أن تقتنع بأنّ هذا الكاتب من أكثر الكُتاب المناهضين للسياسية الإسرائيلية وأنّ العديد من المنضمات الفلسطينية أيّدت انضمامه لكُتَاب الانطولوجيا وأبرزها الصوت الفلسطيني لهذا الكتاب علاء حليل.
من جهته استطاع هذا الكاتب الشاب المولود في الخليل أن يعبّر عن وجهة نظره إلى جانب نجوان درويش على أعمدة "الأخبار" حيث دافع في مقالاته عن فكرة أنّ يتزهار لاور هو أكثر من صهيوني يساري و كونه يهودي هذا لا يمنعه من مشاركة الفلسطينيين في معركتهم. فمن العار أن نرفض كاتباً نُشرَ أكثر من مرة في الكرمل وهي المجلة الأدبية التي كان يديرها محمود درويش و نمنعه من حقه في الظهور في هذه الانطولوجيا حتى ولو كان يتحدث عن تل أبيب التي بُنيَت على أنقاض عربية.
استمر الجدل على صفحات نفس اليومية وهذه المرة عن طريق جواب طويل كتبه لاور رداً على نجوان درويش. يفتتح الشاعر الإسرائيلي نصه بتساؤل إذا ما كان رفض التطبيع يشكّل خطراً على الشيء الطبيعي بحد ذاته وبعدها انتقد معارضه الفلسطيني الذي لم ترق له الانطولوجيا التي تضم تل أبيب إلى الوجدان العربي. و يتابع لاور أنّه عندما درس الجغرافيا لم يعرف شيئا عن هذا الوجدان ولا عن الوجدان السوري أو اليهودي! ويتساءل أيضا إذا كان عدم ذكر تل أبيب سيلغيها من الخريطة. ويقول لاور أنّ أحد مآسي الاحتلال أن يصبح شاعر كنجوان درويش أعمى بسبب الألم و يتمنى أن تصيب أخيه نفس المأساة. يواصل الشاعر الإسرائيلي أفكاره ويعتبرُ النقد الموجه إلى الانطولوجيا إنّما هو مسحه هو ومن يفكر مثله من على الوجود واستحضارهم فقط عندما يخدم وجودهم القضية الفلسطينية وهذا معناه وجود خطابين داخل المجتمع العربي : أولهما التحدث عن دولة واحدة (ديمقراطية و علمانية و كلّ الأشياء الجميلة) بدون ذكر هوية هؤلاء الذين يدافعون عنها، و ثانيهما هو هذا الذي يدّعي باسمه شاعر مثل نجوان درويش أنّه لا وجود يهودي في منطقة الشرق الأوسط.
يؤكد الشاعر الإسرائيلي أنّ هذه التوصيفات هي نتيجة لصدمة وهذا لا يعتبرُ أدباً وحتى لا يمكنه أن يساعد على خوض معركة ويذهب إلى القول أنّ موقف نجوان درويش يساهم في فظاعة الاحتلال لأنّ هذا يعني أنّ تل أبيب موجودة ولمن ليس في أنفسنا وهذه ليست طريقة جدية في المقاومة. ولو قرأ نجوان درويش القصة المنشورة في هذه الانطولوجيا لكان لاحظ أنّ الشاعر الإسرائيلي يشبّه تل أبيب بثكنة كبيرة مليئة بالجنود المرضى.
شارك رئيس الصفحة الثقافية في "الأخبار" بيار أبي صعب أيضا في الجدل وأشار إلى أنّ الشاعر الإسرائيلي في رده يساوي بين الوجدان العربي والوجدان اليهودي بكلمات أخرى هو يساوي بين هوية وطنية وهوية دينية. يلوم لاور معارضهُ لعدم تركه جانباً هويته كما يفعل هو ولا يأخذ بعين الاعتبار الوضع الخاص بشعب مستعمر تحت وطأة الاحتلال. فهو لا يفهم أنّ رفض وجود تل أبيب بين المدن العربية ليس إقصاءً عنصرياً لليهود ولكنه رفضٌ لسياسة تريد أن تجعل من التواجد اليهودي شيئا طبيعياً.
اعترف بيار أبي صعب بأنّ بالنسبة للاور، نجوان درويش يتصرف كمتشدّد كمنطوي على نفسه بينما هو استطاع أن يتخطى حدود انتمائه. ولكن هذا التخطي يجب أن يجعله يفهم الآخر وأنّ لا يقوم بإعطائه مواعظ. فليواصل كتابته عن الظلم في انتظار اليوم الذي يمكن للجميع أن يكتبوا على قدم المساواة عن مدنهم بصفتهم مواطنين عاديين ولا تفرقهم بحور دماء.
حاولنا من خلال هذا الموقع على قدر المستطاع أن نقدم تبادلاً يكاد يكون شبه مستحيل. فالألم كما يقول لاور موجود ولكن نلاحظ أيضاً إذا ما تمَعَّنَا فيما كُتبَ أنّ وما تحمله في لغة أو في أخرى لا تسمح بالتواصل. يمكن أن نضحك من هذا الوجدان العربي الذي ينبثق من لغة (عاطفية أكثر من كونها تحليلية) والتي استعملها نجوان درويش والتي يرفضها الكاتب الإسرائيلي.
يجب أن ننوه أنّ هذا الجدل جاء على صفحات "الأخبار" يومية لبنانية قريبة من حزب الله وبدون أدنى شك هي ليست بعيدة عن قناة المنار التي منعت ألمانيا بثها في الفنادق و عدداً من الأماكن العامة!
منعٌ يمكن أن يمنح دوافع للمواقف الشجاعة لمعارضٌ شديد كالإسرائيلي لاور. وفيما يلي مقدمة كتبها لكتاب نُشرَ عام 2007 عن دار نشر لافابريك.
"رغم شكاويها من عَداء وسائل الإعلام لها، إلاّ أنّ إسرائيل لها تقدير في أوربا. الإسرائيليون ليسوا فقط موجودين في الذاكرة الجماعية الغربية ولكن الغرب تعوّد على اعتبارنا كجزء منه على الأقل عندما نكون هنا بينهم أمّا في الشرق الأوسط فينظر إلينا كنسخة عن الأقدام السوداء. هذا التعريف مع صيغة "نحن" يتماشى بشكل أفضل مع ثقافة المحرقة وبهذا نمنح الأوربي الجديد، في سياق نهاية العالم، رواية أجمل عن هويته أمام ماضيه الاستعماري وحاضره ما بعد الاستعمار. خوفاً من مد هجرة المسلمين الشرعية والسرية تبنى هذا الأوربي اليهودي الجديد كآخر غير مضر، عصري وصديق للتطور بدون لحية و شعر مجعد وامرأته لا تلبس ثوباً تقليديا ولا تغطي شعرها. من حسن الحظ أنّ هؤلاء اليهود الجدد لا يشبهون أجدادهم. باختصار هذا الآخر الودود يشبهني" الأنا" الأوربي المُعَادي لكلّ من لا يشبه والذي لا يلبس مثله والذي لا يعتنق نفس مبادئه."
لمن يريد قراءة المقال الاصلي باللغة الفرنسية يُرجى الضغط على هذا الرابط
ترجمة بن موسى ماحي حسيبة.